عاد التضخم لتسجيل أرقام قياسية جديدة غير مسبوقة منذ 40 عامًا في الولايات المتحدة بوصوله إلى مستوى 8.6% على أساس سنوي في شهر مايو، بعد تراجع نسبي إلى 8.3% في أبريل، بما أثار المخاوف حول احتمال رفع وتيرة تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي لسياساته النقدية.
وازدادت الدعوات إلى رفع الفائدة الأميركية بنسب أعلى في اجتماعات البنك الفيدرالي المقبلة، بعد رفعها بربع ونصف نقطة مئوية على التوالي، وسط تحذيرات من أن هذا قد يتسبب في حدوث ركود في الولايات المتحدة، ولكن يبدو أن ضغوط التضخم المستمرة قد تدفع الإدارة الأميركية للمزيد من التشديد في السياسة المالية مع البدء في استخدام أدوات أخرى.
أولوية “شعبية”
لعل هذا هو ما دفع الرئيس الأميركي “جو بايدن” إلى إعادة التأكيد على أن التعامل مع التضخم يشكل أولوية إدارته، وهو أمر لا يحتاج لتأكيد في ظل ما تشير إليه استطلاعات الرأي من أن التضخم وارتفاع الأسعار يشكلان القضية الأولى لـ65% من الناخبين الأميركيين وهو أمر هام للغاية مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر المقبل
وشملت زيادة الأسعار الشهر الماضي كل القطاعات بما فيها السكن والبنزين وتذاكر السفر والمواد الغذائية والسيارات الجديدة والمستعملة، وصولا إلى الخدمات الصحية والملابس، بما يجعله أكثر إثارة للقلق بعدم اقتصاره على الغذاء والوقود كما كان في مارس الماضي، والذي شهد مستويات قياسية للتضخم أيضا.
وسجل غالون البنزين سعرًا قياسيا في أميركا بلغ 5 دولارات وسط توقعات باستمرار ارتفاع سعره مع إقبال الأميركيين على الترحال لمسافات طويلة في هذا الوقت من العام بسيارات تستهلك الوقود بكميات كبيرة.
ذكرى الثمانينات
ولعل هذا هو ما دعا الأميركيين إلى استعادة ذكرى ما يعرف بالركود التضخمي في السبعينات والثمانينات، ففي ظل ارتفاع أسعار الوقود وقتها (وهو الحادث الآن)، والتضخم بشكل عام، ومخاوف الركود، بدأ الوضع مشابها للأزمة التي شهدتها الولايات المتحدة في بداية سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
ويبدو أن معدل البطالة المتدني حاليًا هو ما يحول دون سقوط الولايات المتحدة في حالة من الركود التضخمي، ففي ظل معدل بطالة يصل إلى 3.6% نهاية أبريل، مقابل معدل بطالة تخطى 8% في عام 2020 ليبدو أن سوق العمل المنتعش يمنع -منفردًا- سقوط الاقتصاد في دوامة الركود.
وعلى الرغم من ذلك يرى 85% من الأميركيين أن الاقتصاد “مقبل لا محالة” على الركود العام القادم، في ظل تراجع واضح في حجم إنتاج الكثير من السلع والخدمات وأزمة سلاسل التوريد لا سيما في السلع الغذائية (والتي ارتفعت بنسبة 10.1% في مايو في رقم قياسي منذ عقود)، وفي أسواق الإلكترونيات.
الركود ليس سيئًا
وعلى الرغم من أنه غالبًا ما يتم النظر إلى الركود في الاقتصاد بوصفه “أمرًا سيئًا” إلا أن وزير الخزانة الأمريكي السابق “لاري سامرز” يرى في ورقة بحثية نشرها من خلال المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية (National Bureau of Economic Research,) أن الأمر قد لا يكون بهذا السوء وأن الركود قد يكون منقذًا للاقتصاد من هذا التضخم المتنامي.
ويعتبر “سامرز” أنه على الرغم من التهوين الرسمي المستمر من احتمالية تكرار أزمة السبعينات والثمانينات، فإن الاقتصاد في خطر من الوصول إلى مستويات تضخم الثمانينات والتي بلغت 13.6% وأنه “لا يتخيل” بلوغ مستويات الفائدة عام 1981 و1982 حيث وصلت إلى قرابة 20% (تحديدا 19%) وبمتوسط 16.63% لامتصاص التضخم.
ويرى “سامرز” أن العديد من الأخطاء ارتكب وأنه على الإدارة الأميركية أن تعرف أن عليها معالجتها بالعديد من الأدوات وليس الفائدة فحسب بما في ذلك تقليل النفقات الحكومية بمختلف أنواعها وإنهاء مختلف برامج التحفيز والدعم الحكومي المباشر وغير المباشر للأعمال، فضلا عن إلغاء القيود على الواردات.
وعلى الرغم من أن هذا قد يتسبب في زيادة نسبة البطالة مجددًا، والتي وصلت في بداية الثمانينات إلى 10.8% إلا أن “سامرز” يرى في ذلك “الحل الوحيد” في تلك المرحلة، والذي يجنب واشنطن الوصول إلى مستويات قياسية في التضخم يصعب السيطرة عليها في مرحلة لاحقة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي نفسه لم يستطع أن يعد مواطنيه بانخفاض التضخم بل قال: “سنعيش مع هذا التضخم لفترة لكنه سينخفض نهاية الأمر”، بل وبدأ في لوم قطاع النفط الأميركي بعدم “بذل الكفاية” بزيادة الإنتاج لتخفيف آثار ارتفاع أسعار الوقود، ولجأ لاتهامه بـ”جعل الأمور أصعب” لـ”الأسر الأميركية”.
ولا شك أن الأسواق الأميركية أصبحت انعكاسًا واضحًا لحالة القلق في الاقتصاد، لا سيما مع تراجع مؤشر “ناسداك” بنسبة 28% منذ بداية العام وحتى نهاية مايو الماضي، والحديث المستمر عن سيطرة الدببة أو السوق الهابطة هناك.
ويبدو أن استمرار ارتفاع مستويات التضخم، سيدفع أميركا إلى التعجيل برفع القيود والرسوم على الواردات الصينية، وهو ما ألمحت إليه وزارة التجارة بالفعل، وربما رفع نسب الفائدة لمستويات قياسية، فضلا عن اتخاذ تدابير أخرى في ظل تعاظم الانتقادات لبطء الإدارة الأميركية لعدم اتخاذ تدابير حاسمة في مواجهة التضخم.
المصادر: سي.إن.بي.سي- سي.إن.إن- نيويورك تايمز- وكالة الأنباء الفرنسية